من التنافس إلى السيطرة: كيف أصبحت قرطاجة نداً لروما
شهد البحر
الأبيض المتوسط في القرن الثالث قبل الميلاد صراعاً مريراً بين قوتين عظميين: روما
الصاعدة من شبه الجزيرة الإيطالية، وقرطاجة المزدهرة على السواحل الشمالية
لإفريقيا، كان هذا الصراع أكثر من مجرد مواجهة عسكرية، فقد جسد صداماً بين نظامين
سياسيين واقتصاديين مختلفين، وأدى إلى تغيير خريطة القوة في العالم القديم، وبينما
كانت قرطاجة تعتمد على تجارتها البحرية وثروتها الاقتصادية، كانت روما تركز على
الانضباط العسكري والتوسع البرّي المنهجي، هذا التناقض في مصادر القوة هو ما جعل
من قرطاجة نداُ خطيراً لروما، ودفع الأخيرة لتتحول من قوة برية محلية إلى
إمبراطورية بحرية عالمية (علي، 2011).
في بدايات القرن
الثالث قبل الميلاد، كانت قرطاجة تسيطر على طرق التجارة في البحر المتوسط، وتمتلك
أسطولاً ضخماً ومستعمرات تمتد من صقلية إلى إسبانيا، كانت جمهوريةً تجاريةً غنية،
لكنها افتقرت إلى الروح الوطنية المتماسكة، حيث كانت تعتمد على جيوشٍ من المرتزقة
لا يحملون ولاءً حقيقياً للدولة، في المقابل كانت روما جمهوريةً فتيةً تسعى إلى
توسيع نفوذها عبر التحالفات والولاءات السياسية، وقد امتازت جيوشها بالانضباط،
وحكامها بالحكمة في إدارة الأقاليم المفتوحة. ( زيدان ، 2013 )
بدأ التنافس
الحقيقي بين الطرفين عندما توسعت روما في صقلية، وهي الجزيرة التي كانت تمثل موقعاً
استراتيجياً للتجارة والسيطرة على المتوسط، أشعل ذلك الحرب البونية الأولى
(264–241 ق.م)، التي كانت في جوهرها صراعاً على السيادة البحرية، وبرغم تفوق
قرطاجة في البحر، نجحت روما في بناء أسطول بحري جديد مستوحى من تصميم سفن قرطاجية
غارقة، كما ابتكر الرومان تقنية الجسر البحري التي مكنتهم من تحويل المعارك
البحرية إلى معارك برية فوق السفن، وهو تكتيك يناسب قوتهم العسكرية البرية، وقد
مكنهم هذا الابتكار من تحقيق أول انتصار بحري كبير في تاريخهم، لتبدأ بذلك رحلة
تحول روما إلى قوة بحرية.
لكن قرطاجة لم
تستسلم بسهولة ففي الحرب البونية الثانية (218–201 ق.م)، ظهر القائد الشهير حنبعل
الذي عبر جبال الألب في واحدة من أجرأ الحملات العسكرية في التاريخ، وعلى الرغم من
انتصاراته المبكرة في كاناي وتريبيا، إلا أنه فشل في اقتحام روما ذاتها بسبب غياب
الدعم من حكومته التي كانت غارقة في الفساد والخلافات الداخلية، في المقابل أرسلت
روما قائدها سكيبيو الإفريقي الذي نقل الحرب إلى قلب إفريقيا، وتمكن في معركة زاما
(202 ق.م) من هزيمة حنبعل وإنهاء طموح قرطاجة في قيادة البحر المتوسط. ( فريد
،2012 )
لقد كانت نقطة
القوة في روما تكمن في قدرتها على التعلم من أعدائها وتكييف تكتيكاتها مع الظروف،
بينما اعتمدت قرطاجة على التجارة والمرتزقة، اعتمدت روما على الانتماء الوطني
والانضباط العسكري، وهو ما جعلها أكثر مرونة وصلابة في الحروب الطويلة، ومع مرور
الوقت أصبحت السيطرة على البحر المتوسط هدفاً وجودياً للرومان الذين رأوا فيه
بوابة للهيمنة على العالم القديم. ( زيدان ، 2013 )
وفي الختام انتهى
الصراع بين روما وقرطاجة بتدمير الأخيرة عام 146 ق.م بعد الحرب البونية الثالثة،
عندما سويت المدينة بالأرض وأعلن أن قرطاجة لم تعد موجودة، إلا أن هذا الصراع لم
يكن مجرد حرب تدمير، بل كان مدرسة في التوازن بين البر والبحر والاقتصاد والسياسة،
والعزيمة والذكاء العسكري، لقد دفعت روما ثمناً باهظاً لتتعلم كيف تبحر وتقاتل في
عرض البحر، لكنها خرجت من هذه التجربة سيدة البحر المتوسط بلا منازع، ومهدت الطريق
لقيام إمبراطورية استمرت قروناً، وهكذا كانت قرطاجة الخصم الذي ساعد من غير قصد في
تشكيل روما كقوة بحرية عالمية.
المراجع:
فريد ، محمد . (
2012 ) . تاريخ الرومانيين . موقع هنداوي . تم الاسترجاع من الرابط 
https://www.hindawi.org/books/69573150/
زيدان ، جرحي .
( 2013 ) . خلاصة تاريخ اليونان والرومان . موقع هنداوي .تم الاسترجاع من الرابط 
https://www.hindawi.org/books/20281730/
علي ، عبد
اللطيف . ( 2011 ) . التاريخ الروماني . بيروت ، لبنان : دار النهضر للنشر
والتوزيع . تم الاسترجاع من الرابط 
https://platform.almanhal.com/Reader/Book/22721