عندما نسمع كلمة الديمقراطية، يتبادر
إلى أذهاننا فوراً اسم أثينا، فهي المدينة التي أسست أول تجربة سياسية قائمة على
مشاركة المواطنين المباشرة في الحكم، لقد كان ظهور الديمقراطية الأثينية حدثاً
فريداً في التاريخ، حيث أتاح للرجال الأحرار من أبناء أثينا حق التصويت والمشاركة
في صناعة القرار عبر الجمعية الشعبية والمجالس المختلفة، هذا النظام لم يكن مثالياً
بكل المقاييس، لكنه كان ثورة فكرية واجتماعية في زمن كانت فيه معظم الشعوب خاضعة
لأنظمة ملكية أو طغيانية. ( البدري ، 2015 )
غير أن هذه التجربة العظيمة لم تدم
طويلاً، إذ واجهت أثينا سلسلة من الأزمات التي أضعفت بنيانها السياسي وأدت إلى
انهيار نظامها الديمقراطي، ومن أبرز هذه العوامل كان الصراع مع الإمبراطورية
الفارسية، فالحروب الطويلة التي خاضتها المدن اليونانية ضد الفرس استنزفت قواها،
وأثقلت كاهلها اقتصادياً وسياسياً، مما جعل الديمقراطية في أثينا أكثر هشاشة وأقل
قدرة على الصمود أمام الأزمات. ( زيدان ، 2013 )
لكن التهديد الأكبر جاء من داخل أثينا
نفسها فبعد أن تمكنت من صد الفرس، اتجهت هذه المدينة إلى سياسة توسعية إمبريالية،
حيث سعت إلى فرض سيطرتها على المدن اليونانية الأخرى، وفرضت عليها دفع الجزية
والانضمام إلى حلف بحري بقيادة أثينا، هذا التوجه خلق عداءً واسعاً مع العديد من
الدويلات، وأدى في النهاية إلى تحالف هذه المدن مع خصم أثينا التاريخي إسبرطة.
هذا الصراع بلغ ذروته في الحرب
البيلوبونية، وهي الحرب الشهيرة التي استمرت لسنوات طويلة بين أثينا وحلفائها من
جهة، وإسبرطة وحلفائها من جهة أخرى، ومع مرور الوقت انهكت هذه الحرب الموارد
البشرية والاقتصادية لأثينا، وأدت إلى تدهور وضعها الداخلي، ثم انتهت أخيراً
بهزيمتها الساحقة أمام إسبرطة، وخرابها بالكامل. ( زيدان ، 2013 )
بهذا السقوط المدوي، انطفئت التجربة
الديمقراطية فقد عادت أثينا إلى حكم المستبد، وانطفأت شعلة المشاركة الشعبية التي
كانت قد أنارت سماء السياسة اليونانية لقرن من الزمن، صحيح أن الفكرة لم تمت تماماً،
إذ بقيت الديمقراطية جزءاً من التراث الثقافي والفكري لليونان، لكنها لم تمارس من
جديد حتى أحيتها أوروبا في عصور لاحقة ضمن سياق مغاير تماماً.
إن تجربة الديمقراطية الأثينية تعطينا
دروساً كثيرة، فهي تظهر أن الحرية السياسية تحتاج إلى توازن داخلي واستقرار خارجي،
فكلما انجرفت الدول إلى الحروب والتوسع على حساب الآخرين، كلما ضعفت دعائم الحرية
فيها كما أن الانقسام الداخلي وسوء إدارة التنوع في الآراء قد يحول الديمقراطية من
قوة إلى هشاشة.
وفي الختام يمكن القول إن الديمقراطية
الأثينية كانت خطوة رائدة في تاريخ البشرية، لكنها سقطت ضحية الطموحات التوسعية
والصراعات العسكرية التي لم تترك لها مجالاً للنمو والاستمرار، لقد تلاشت التجربة
على أرض أثينا لكنها تركت أثراً خالداً في الفكر السياسي العالمي.
المراجع :
زيدان ، جرحي . ( 2013 ) . خلاصة تاريخ
اليونان والرومان . القاهرة ، مصر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة . تم الاسترجاع
من الرابط
https://www.hindawi.org/books/20281730/
البدري ، محمد . ( 2015 ) . من التاريخ
أثينا و الديمقراطية . صحيفة الشرق الأوسط . تم الاسترجاع من الرابط